فصل: تفسير الآيات (53- 61):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: في ظلال القرآن (نسخة منقحة)



إنه الهول الملفوف في ثنايا التعبير الرهيب. فلو أن لهؤلاء الظالمين الظالمين بشركهم وهو الظلم العظيم لو أن لهؤلاء {ما في الأرض جميعاً}.. مما يحرصون عليه وينأون عن الإسلام اعتزازاً به. {ومثله معه}.. لقدموه فدية مما يرون من سوء العذاب يوم القيامة..
وهول آخر يتضمنه التعبير الملفوف: {وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون}..
ولا يفصح عما بدا لهم من الله ولم يكونوا يتوقعونه. لا يفصح عنه ولكنه هكذا هائل مذهل مخيف.. فهو الله. الله الذي يبدو منه لهؤلاء الضعاف ما لا يتوقعون! هكذا بلا تعريف ولا تحديد!
{وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون}..
وهذه كذلك تزيد الموقف سوءاً. حين يتكشف لهم قبح ما فعلوا؛ وحين يحيط بهم ما كانوا به يستهزئون من الوعيد والنذير. وهم في ذلك الموقف الأليم الرعيب..
وبعد هذا المشهد المعترض لبيان حالهم يوم يرجعون إلى الله الذي به يشركون، والذي تشمئز قلوبهم حين يذكر وحده، وتستبشر حينما تذكر آلهتهم المدعاة. بعد هذا يعود إلى تصوير حالهم العجيب. فهم ينكرون وحدانية الله. فأما حين يصيبهم الضر فهم لا يتوجهون إلا له وحده ضارعين منيبين. حتى إذا تفضل عليهم وأنعم راحوا يتبجحون وينكرون:
{فإذا مس الإنسان ضر دعانا ثم إذا خولناه نعمة منا قال إنما أوتيه على علم بل هي فتنة ولكن أكثرهم لا يعلمون}..
والآية تصور نموذجاً مكرراً للإنسان، ما لم تهتد فطرته إلى الحق، وترجع إلى ربها الواحد، وتعرف الطريق إليه، فلا تضل عنه في السراء والضراء.
إن الضر يسقط عن الفطرة ركام الأهواء والشهوات، ويعريها من العوامل المصطنعة التي تحجب عنها الحق الكامن فيها وفي ضمير هذا الوجود. فعندئذ ترى الله وتعرفه وتتجه إليه وحده. حتى إذا مرت الشدة وجاء الرخاء، نسي هذا الإنسان ما قاله في الضراء، وانحرفت فطرته بتأثير الأهواء. وقال عن النعمة والرزق والفضل: {إنما أوتيته على علم}.. قالها قارون، وقالها كل مخدوع بعلم أو صنعة أو حيلة يعلل بها ما اتفق له من مال أو سلطان. غافلاً عن مصدر النعمة، وواهب العلم والقدرة، ومسبب الأسباب، ومقدر الأرزاق.

.تفسير الآيات (53- 61):

{قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ ثُمَّ لَا تُنْصَرُونَ (54) وَاتَّبِعُوا أَحْسَنَ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذَابُ بَغْتَةً وَأَنْتُمْ لَا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يَا حَسْرَتَا عَلَى مَا فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَإِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدَانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57) أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذَابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلَى قَدْ جَاءَتْكَ آَيَاتِي فَكَذَّبْتَ بِهَا وَاسْتَكْبَرْتَ وَكُنْتَ مِنَ الْكَافِرِينَ (59) وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60) وَيُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفَازَتِهِمْ لَا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)}
ولما صور الله الحال المفزعة التي يكون عليها الظالمون يوم القيامة في قوله: {ولو أن للذين ظلموا ما في الأرض جميعاً ومثله معه لافتدوا به من سوء العذاب يوم القيامة وبدا لهم من الله ما لم يكونوا يحتسبون وبدا لهم سيئات ما كسبوا وحاق بهم ما كانوا به يستهزئون} عاد يفتح أبواب رحمته على مصاريعها بالتوبة. ويطمع في رحمته ومغفرته أهل المعاصي مهما يكونوا قد أسرفوا في المعصية. ويدعوهم إلى الأوبة إليه غير قانطين ولا يائسين. ومع الدعوة إلى الرحمة والمغفرة صورة ما ينتظرهم لو لم يئوبوا ويتوبوا، ولو لم ينتهزوا هذه الفرصة المتاحة قبل إفلاتها وفوات الأوان..
{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}..
إنها الرحمة الواسعة التي تسع كل معصية. كائنة ما كانت وإنها الدعوة للأوبة. دعوة العصاة المسرفين الشاردين المبعدين في تيه الضلال. دعوتهم إلى الأمل والرجاء والثقة بعفو الله. إن الله رحيم بعباده. وهو يعلم ضعفهم وعجزهم. ويعلم العوامل المسلطة عليهم من داخل كيانهم ومن خارجه. ويعلم أن الشيطان يقعد لهم كل مرصد. ويأخذ عليهم كل طريق. ويجلب عليهم بخيله ورجله. وأنه جاد كل الجد في عمله الخبيث! ويعلم أن بناء هذا المخلوق الإنساني بناء واه. وأنه مسكين سرعان ما يسقط إذا أفلت من يده الحبل الذي يربطه والعروة التي تشده. وأن ما ركب في كيانه من وظائف ومن ميول ومن شهوات سرعان ما ينحرف عن التوازن فيشط به هنا أو هناك؛ ويوقعه في المعصية وهو ضعيف عن الاحتفاظ بالتوازن السليم..
يعلم الله سبحانه عن هذا المخلوق كل هذا فيمد له في العون؛ ويوسع له في الرحمة؛ ولا يأخذه بمعصيته حتى يهيء له جميع الوسائل ليصلح خطأه ويقيم خطاه على الصراط. وبعد أن يلج في المعصية، ويسرف في الذنب، ويحسب أنه قد طرد وانتهى أمره، ولم يعد يقبل ولا يستقبل. في هذه اللحظة لحظة اليأس والقنوط، يسمع نداء الرحمة الندي اللطيف:
{قل يا عبادي الذين أسرفوا على أنفسهم لا تقنطوا من رحمة الله إن الله يغفر الذنوب جميعاً إنه هو الغفور الرحيم}..
وليس بينه وقد أسرف في المعصية، ولج في الذنب، وأبق عن الحمى، وشرد عن الطريق ليس بينه وبين الرحمة الندية الرخية، وظلالها السمحة المحيية. ليس بينه وبين هذا كله إلا التوبة. التوبة وحدها. الأوبة إلى الباب المفتوح الذي ليس عليه بواب يمنع، والذي لا يحتاج من يلج فيه إلى استئذان:
{وأنيبوا إلى ربكم وأسلموا له من قبل أن يأتيكم العذاب ثم لا تنصرون}.

.تفسير الآيات (62- 75):

{اللَّهُ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقَالِيدُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ اللَّهِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ (63) قُلْ أَفَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجَاهِلُونَ (64) وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66) وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67) وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شَاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرَى فَإِذَا هُمْ قِيَامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَأَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّهَا وَوُضِعَ الْكِتَابُ وَجِيءَ بِالنَّبِيِّينَ وَالشُّهَدَاءِ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ (69) وَوُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ وَهُوَ أَعْلَمُ بِمَا يَفْعَلُونَ (70) وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا فُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا أَلَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آَيَاتِ رَبِّكُمْ وَيُنْذِرُونَكُمْ لِقَاءَ يَوْمِكُمْ هَذَا قَالُوا بَلَى وَلَكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذَابِ عَلَى الْكَافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلَامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ (73) وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ (74) وَتَرَى الْمَلَائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَقِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ (75)}
هذا القطاع الأخير في السورة، يعرض حقيقة التوحيد من جانب وحدانية الخالق الذي خلق كل شيء، المالك المتصرف في كل شيء. فتبدو دعوة المشركين للنبي صلى الله عليه وسلم إلى مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يشاركوه عبادة إلهه! تبدو هذه الدعوة مستغربة، والله هو خالق كل شيء، وهو المتصرف في ملكوت السماوات والأرض بلا شريك. فأنى يعبد معه غيره، وله وحده مقاليد السماوات والأرض؟!
{وما قدروا الله حق قدره} وهم يشركون به وهو وحده المعبود القادر القاهر {والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه}.. وبمناسبة تصوير هذه الحقيقة على هذا النحو يوم القيامة يعرض مشهداً فريداً من مشاهد القيامة، ينتهي بموقف الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم، وينطق الوجود كله بحمده: {وقيل الحمد لله رب العالمين}.. فتكون هذه هي كلمة الفصل في حقيقة التوحيد.
{الله خالق كل شيء وهو على كل شيء وكيل له مقاليد السماوات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون}..
إنها الحقيقة التي ينطق بها كل شيء. فما يملك أحد أن يدعي أنه خلق شيئاً. وما يملك عقل أن يزعم أن هذا الوجود وجد من غير مبدع. وكل ما فيه ينطق بالقصد والتدبير؛ وليس أمر من أموره متروكاً لقى أو للمصادفة من الصغير إلى الكبير: {وهو على كل شيء وكيل}.. وإلى الله قياد السماوات والأرض. فهو يصرفها وفق ما يريد؛ وهي تسير وفق نظامه الذي قدره؛ وما تتدخل إرادة غير إرادته في تصريفها، على ما تشهد الفطرة، وينطق الواقع، ويقر العقل والضمير.
{والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون}..
خسروا الإدراك الذي يجعل حياتهم في الأرض متسقة مع حياة الكون كله؛ وخسروا راحة الهدى وجمال الإيمان وطمأنينة الاعتقاد وحلاوة اليقين. وخسروا في الآخرة أنفسهم وأهليهم. فهم الخاسرون الذين ينطبق عليهم لفظ {الخاسرون}!
وعلى ضوء هذه الحقيقة التي تنطق بها السماوات والأرض، ويشهد بها كل شيء في الوجود، يلقن الرسول صلى الله عليه وسلم استنكار ما يعرضونه عليه من مشاركتهم عبادة آلهتهم في مقابل أن يعبدوا معه إلهه. كأن الأمر أمر صفقة يساوم عليها في السوق!
{قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون}..
وهو الاستنكار الذي تصرخ به الفطرة في وجه هذا العرض السخيف الذي ينبئ عن الجهل المطلق المطبق المطموس.
ويعقب عليه بتحذير من الشرك. يبدأ أول ما يبدأ بالأنبياء والمرسلين. وهم صلوات الله عليهم لا يتطرق إلى قلوبهم طائف الشرك أبداً. ولكن التحذير هنا ينبه سواهم من أقوامهم إلى تفرد ذات الله سبحانه في مقام العبادة، وتوحد البشر في مقام العبودية، بما فيهم الأنبياء والمرسلون:
{ولقد أوحي إليك وإلى الذين من قبلك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين}.
ويختم هذا التحذير من الشرك بالأمر بالتوحيد. توحيد العبادة والشكر على الهدى واليقين، وعلى آلاء الله التي تغمر عباده، ويعجزون عن إحصائها، وهم فيها مغمورون:
{بل الله فاعبد وكن من الشاكرين}..
{وما قدروا الله حق قدره}..
نعم. ما قدروا الله حق قدره، وهم يشركون به بعض خلقه. وهم لا يعبدونه حق عبادته. وهم لا يدركون وحدانيته وعظمته. وهم لا يستشعرون جلاله وقوته.
ثم يكشف لهم عن جانب من عظمة الله وقوته. على طريقة التصوير القرآنية، التي تقرب للبشر الحقائق الكلية في صورة جزئية، يتصورها إدراكهم المحدود:
{والأرض جميعاً قبضته يوم القيامة والسماوات مطويات بيمينه سبحانه وتعالى عما يشركون}..
وكل ما يرد في القرآن وفي الحديث من هذه الصور والمشاهد إنما هو تقريب للحقائق التي لا يملك البشر إدراكها بغير أن توضع لهم في تعبير يدركونه، وفي صورة يتصورونها. ومنه هذا التصوير لجانب من حقيقة القدرة المطلقة، التي لا تتقيد بشكل، ولا تتحيز في حيز، ولا تتحدد بحدود.
ثم يأخذ في مشهد من مشاهد القيامة يبدأ بالنفخة الأولى، وينتهي بانتهاء الموقف، وسوق أهل النار إلى النار. وأهل الجنة إلى الجنة. وتفرد الله ذي الجلال. وتوجه الوجود لذاته بالتسبيح والتحميد.
وهو مشهد رائع حافل، يبدأ متحركاً، ثم يسير وئيداً، حتى تهدأ كل حركة، وتسكن كل نأمة، ويخيم على ساحة العرض جلال الصمت، ورهبة الخشوع، بين يدي الله الواحد القهار!
ها هي ذي الصيحة الأولى تنبعث، فيصعق من يكون باقياً على ظهر الأرض من الأحياء، ومن في السماوات كذلك إلا من شاء الله ولا نعلم كم يمضي من الوقت حتى تنبعث الصيحة الثانية:
{ونفخ في الصور فصعق من في السماوات ومن في الأرض إلا من شاء الله ثم نفخ فيه أخرى فإذا هم قيام ينظرون}..
ولا تذكر الصيحة الثالثة هنا. صيحة الحشر والتجميع. ولا تصور ضجة الحشر وعجيج الزحام. لأن هذا المشهد يرسم هنا في هدوء، ويتحرك في سكون.
{وأشرقت الأرض بنور ربها}..
أرض الساحة التي يتم فيها الاستعراض. ونور ربها الذي لا نور غيره في هذا المقام..
{ووضع الكتاب}.. الحافظ لأعمال العباد..
{وجيء بالنبيين والشهداء}.. ليقولوا كلمة الحق التي يعلمون.. وطوي كل خصام وجدال في هذا المشهد تنسيقاً لجوه مع الجلال والخشوع الذي يسود الموقف العام:
{وقضي بينهم بالحق وهم لا يظلمون ووفيت كل نفس ما عملت وهو أعلم بما يفعلون}..
فلا حاجة إلى كلمة تقال، ولا إلى صوت واحد يرتفع. ومن ثم تجمل وتطوى عملية الحساب والسؤال والجواب التي تعرض في مشاهد أخرى. لأن المقام هنا مقام روعة وجلال.

.سورة غافر: